'بكار' صانع تقلدي ورث حرفته كابرا عن كابر، فهو ينحدر من فئة 'الصناع التقليديين المعروفين محليا باسم 'المعلمين'، وهم سلالة يقول معظم المؤرخين إنها جاءت مع الهجرات العربية التي وفدت إلى المنطقة من اليمن بعد انهيار سد مأرب، واشتغلوا بالصناعة اليدوية التي برعوا فيها وأبدعوا بشكل منقطع النظير.
يجلس بكار في محله المتواضع في أطراف سوق شعبية وسط العاصمة نواكشوط تسمى 'سوق المعلمين'، ينفخ في كيره، ويهوي بين الفينة والأخرى بمطرقته على سندان من الفولاذ تم تثبيته في الأرض، وحوله تتناثر قطع الحديد والخشب والفحم وأشياء أخرى، من بقايا المواد التي يستخدمها في عمله، يقول بكار إنه تعلم الصنعة وهو صغير على يد والده الذي كان من أمهر صناع القبيلة، وهو اليوم يسعى لتعليمها لابنه الصغير بعد أن فضل أبناؤه الكبار التوجه إلى الدراسة لسلوك طريق غير طريق الآباء والأجداد.
يؤكد أنه يصنع في محله كل الأشياء التقليدية المعروفة، بعضها يبيعه لسكان الأرياف الذين يأتون إلى المدينة لشراء تلك المعدات، والبعض يشتريه سكان المدينة، هذا فضلا عن إقبال السياح على الصناعة التقليدية لاقتنائها.
بكار هو واحد من مئات الصناع التقليديين في موريتانيا الذين ورثوا الصنعة عن آبائهم، ويصرون على الاحتفاظ بها وتطويرها، وينفي أن تكون التكنولوجيا المعاصرة تهدد مصدر رزقه الذي لا يبغي به بدلا، وقد أصبح هو وزملاؤه جزءا من تراث المجتمع الموريتاني الذي تسعى السلطات اليوم لصيانته وترقيته، عبر برامج وتعاونيات متعددة، ويعتمد الصناع التقليديون في صناعاتهم عادة على الخشب والفولاذ والذهب والفضة والنحاس، هذا فضلا عن العاج وجلود الإبل والبقر والماعز، حيث ينتجون منها مقتنيات تتراوح بين المخدات والوسائد والفرش والأساور والخواتم ورواحل الإبل وسروج الخيل والأواني وغيرها.
قصة صناعة الراحلة
كان بكار منهمكا في صناعة راحلة قال إن أحد البدو طلب منه توفيرها له، وكان يتعامل مع قطع الخشب بدقة وإتقان، ويصنع منها صفائح وأشكالا بديعة تتراوح بين المثلث والمعين والمستطيل، وأشكالا هندسية أخرى لم يعرف لها من قبل اسم، ولكل قطعة من تلك الراحلة اسم خاص بها، فبالنسبة لقطعتي الخشب الموجودتين في جانبي الراحلة تسميان 'الصفف'، والواحدة منها 'الصفة'، أما الخشبة الأمامية التي تكون بين رجلي الراكب يمسك بها فوق الجمل، فتسمى 'الكربوص'، وهناك 'اجنايد'، و'الغرظ' وهما عبارة عن حبال وقطع مزركشة وحلق منمقة، يتم بواسطتها تثبيت الراحلة على ظهر الجمل، ومع الراحلة ملحقات خاصة بها، منها 'إلويش'، وهو عبارة عن قطعة كبيرة من جلد الضأن تحتفظ بصوفها، ويتم نقش بعض الرسوم على بطنها وأطرافها، وتوضع فوق الراحلة تكون بمنزلة فراش وثير للراكب، وهناك 'الخزامة'، وهي عبارة عن الحبل الذي يوضع في أنف الجمل ويمسك به الراكب، ويصنع عادة من جلود الماعز، وتكون في وسطه عقد منمقة يتم صبغها باللون الأحمر عادة، وهناك 'اللبدة' وهي عبارة عن كيس من الجلد بداخله قطن أو قماش، يتم وضعه على ظهر الجمل يحول بينه وبين الراحلة، ويعتبر اكتمال شروط الراحلة مع جمل حسن المنظر ممشوق القوام، أفضل تعبير عن كمال الفتوة والرجولة لدى البدو الموريتانيين.
وبعد أن شد بكار قطع الخشب إلى بعضها بإتقان وقوة، تجعلها قادرة على تحمل ما ستواجهه على ظهور الجمال من ركوب وسقوط وغير ذلك، يشرع في تغليفها بواسطة جلد الماعز مستخدما مخرزا طويلا يسمونه 'المخيط'، وأداة أخرى لثقب الجلود تسمى 'لشفة'، وشرائط من الجلد تسمى 'السيور'، واعترف بكار أن هذا العمل يأخذ منه ما بين يومين إلى ثلاثة أيام، ومع ذلك يأخذ مقابله ثمنا يتراوح بين 60 و80 دولارا، وبعد أن ينهي تغليف الراحلة بإتقان، يأتي الدور على زوجته 'خديجة' التي تبدأ في زخرفة 'الراحلة'، بواسطة أنواع مختلفة من الأصباغ تسمى 'الشرك'، تكون عادة من الألوان الصارخة أغلبها ما بين الأحمر القاني والأصفر الفاقع، وبأنامل متقنة تبدع خديجة في زركشة الراحلة وتنميقها، قبل أن ترصع أطرافها بأهداب من الجلد زركشت هي الأخرى ببدائع الرسوم والألوان.
خديجة تقوم كذلك بصناعة المخدات والوسائد من جلود الماعز، ويتم صبغها كذلك بمختلف الألوان، وتخيط في جوانبها أهدابا مزركشة بالألوان الزاهية، وتشتري الأسر الموريتانية هذه الوسائد عادة لتقدم للمرأة عند زواجها قبل أن ترحل إلى بيت أهل زوجها، كما أنها أصبحت جزءا من ديكور البيت لدى بعض الأسر الموريتانية المعاصرة، وتصنع كذلك أنواعا من حلق جمع المفاتيح تسمى 'النسعة'، يتم نسجها من جلود الماعز أو الإبل، كما تقوم بتجليد الكتب وتنميقها، هذا فضلا عن أنها كباقي نساء الصناع التقليديين تخصصت في تزيين العرائس ووضع الحناء لهن، وأصبحت لدى بعض نساء الصناع التقليديين صالونات للحناء والتزيين.
صراع التمثيل
وفي مباني معرض نواكشوط المحلي بحي الميناء تتزاحم عشرات المحلات التي تكتظ بمنتوج الصناعة التقليدية، تنتظر زوارا أغلبهم من السياح الأجانب، ويتطلع أصحاب هذه المحلات إلى أية وسيلة إعلام تقترب منهم، ليبثوا لها الشكوى من ركود بضاعتهم وإعراض السلطات الرسمية عنهم، ويقول سيدي أحمد وهو صانع تقليدي وصاحب متجر في المعرض المحلي، إن الحكومة تعاملت مع فئة قليلة من الصناع التقليديين لا يمثلون أغلبيتهم، وأصبحوا يستحوذون على كل ما يقدم لهم من مساعدة، ويحتكرون صفة تمثيلهم أمام السلطات وفي الخارج، وعندما تكون هناك فرصة للسفر وعرض البضاعة في خارج البلاد بمناسبة أحد المعارض الدولية التي تنظم عبر العالم من حين لآخر، فإن هؤلاء يقومون باختيار أقاربهم والمقربين منهم فيما يتم حرمان آخرين لأن علاقاتهم بهؤلاء غير جيدة، أو لأنهم لا يعرفونهم أصلا.
أما السلطات فتنفي أي علاقة لها بالمشاكل الداخلية لهذه الفئة، وتقول إنها تتعامل معهم عن طريق اتحاديات يتم انتخابها من طرف الصناع التقليديين أنفسهم، وأنها غير معنية بالصراعات الداخلية لهؤلاء، وقد أصدرت الحكومة الموريتانية مؤخرا مدونة قانونية تحمل اسم 'مدونة الصناعة التقليدية' تحدد بوضوح العلاقة بين السلطات وهؤلاء الصناع التقليديين، وتنص هذه المدونة على أن وزير الصناعة التقليدية والسياحة هو المكلف بوضع وتنفيذ سياسة الحكومة في مجال الصناعة التقليدية، وكذلك بالتنظيم والرقابة في هذه المجالات في إطار السياسة المحددة
أما السيدة الغالية صاحبة محل للزينة والحناء، في 'سوق لكبيد' بحي كارفور، فتقول إنها ورثت مهنة تزيين النساء وتصفيف شعرهن وتزينهن بالحناء عن والدتها، وأنها طورت مهارتها حسب الحاجيات المتجددة للنساء اليوم، وقالت إنها تأخذ ما قيمته 70 دولارا مقابل تزيين عروس واحدة، ويتطلب منها ذلك العمل يوما كاملا وساعات طويلة من الليل، مضيفة أن ابنتها الكبرى البالغة من العمر 9 سنوات بدأت تحضر معها إلى المحل لتتعلم وتساعدها في المستقبل.
وفي 'سوق المعلمين' محلات تخصص أصحابها في صياغة الذهب وإعادة صناعته، وأصبحوا من أكبر عناصر هذه الفئة دخلا، حتى أن من بينهم من أصبحوا يسمون بأباطرة الذهب في نواكشوط.
أدوار اجتماعية أخرى
وتقليديا عرف المجتمع الموريتاني للصناع التقليديين أعمالا وأدوارا أخرى تبتعد كل البعد عن حرفهم المعهودة لهم، حيث سخرت هذه الفئة نظرا لوجودها بين الفئات الدنيا في هرم المجتمع، كأداة لتنفيذ مختلف التقاليد الاجتماعية، من قبيل القيام ببعض مراسيم الخطوبة والزواج والطلاق، حيث يتم عادة تكليف إحدى نساء هذه الفئة بنشر خبر الخطوبة، كما تتولى نقل الهدايا التي يقدمها الزوج لأهل عروسه، وحتى في الطلاق تكلف عادة بحمل المال الذي يدفعه الزوج لمطلقته كمتعة بعد فراقهما، ولها نصيب من كل ذلك، ويقول الباحث سيدينا ولد أحمد وهو من المنحدرين من هذه الشريحة، 'إن المجتمع درج على مكافأة هذه الفئة على أعمالهم بصفة مباشرة، مع وجود عطايا تخصهم عوضا عن الأجر غير المباشر، فقد أعطوا نصيبا من الغلات الزراعية في موسم الحصاد، وأعطوا من الذبائح رؤوس الأغنام والبقر، وأجزاء أخرى من الإبل، وكذلك نصيبا من مهور النساء والهدايا التي يتبادلها أهل العروس وأهل العريس'، ويضيف 'ورغم أن هذا يشكل اعترافا من المجتمع بدورهم، فانه مع استمرار انحطاط المستوى الاجتماعي لهم، شكلت هذه العادات مثار سخرية منهم، وتعبيرا عن الدونية وعدم الترفع والسذاجة'.
وحول هذه الفئة نسج المجتمع الموريتاني الكثير من الأساطير الشعبية، أغلبها يكتسي طابع السخرية والتنكيت، وتتندر عليهم الحكايات وتصفهم بالجبن وحب المال والشراهة عند الأكل وغيرها، 'وهو ما ساعد على ترسيخ هذه الرؤية عنهم عبر الأجيال المتتالية حتى أصبح من المسلم به أن هذه الصفات تشكل جزءا من التكوين الشخصي المتوارث لدى أبناء هذه الفئة، وبفعل العامل النفسي وضغوط المجتمع أصبح من البدهي أن يتأثر بعض هؤلاء بهذه الصفات'.
وعهد عن أبناء هذه الفئة حدة الذكاء وسرعة البديهة، إذ عرف من بينهم أشخاص تبحروا في العلم دون أن يتفرغوا له، وحفظوا القرآن وهم منهمكون في أعمالهم اليومية، كما أن المعرض السنوي الذي ينظم في نواكشوط للاختراعات والابتكارات، يحتل العارضون من فئة الصناع التقليديين النصيب الأكبر فيه.
صعوبات جمة
ويواجه الصناع التقليديون في موريتانيا صعوبات جمة، لخصها وزير الصناعة التقليدية والسياحة السابق إسلم ولد عبد القادر في 'رداءة تجهيزات الصناع التقليديين، وصعوبة الحصول على مصادر التمويل، وغياب ميكانيسمات تتعلق بالتسويق، هذا فضلا عن أن النظام التكويني الحالي لا يستجيب بشكل كامل لحاجيات مجمل شعب الصناعة التقليدية، ولهذا يلزم إنشاء هياكل تكوينية جديدة خاصة بالصناع التقليديين'.
أما الرئيس السابق لمشروع صيانة وتثمين التراث الثقافي في موريتانيا هيبتنا ولد سيدي هيبة فيرى أن 'الصناعة التقليدية عنصر أساسي من التراث، ومن الثقافة الموريتانية بشكل عام, وبالتالي فإن بقاءها واستمرارها أمر حيوي وضروري، كما أنها مصدر رزق، ومهنة نبيلة وخلاقة لشريحة كبيرة من المجتمع، ورافد مهم من روافد الاقتصاد الوطني'.
لكن رئيس مشروع صيانة تثمين التراث الثقافي السابق يرى أن الصناع التقليديين يتحملون جزءا من التدهور الذي عرفته الصناعة التقليدية في موريتانيا مؤخرا، وذلك بسبب 'انعدام الجودة والتدني الذي لوحظ منذ بعض الوقت في منتوج الصناعة التقليدية، وهو ما أصبح يشكل عائقا كبيرا أمام ترقية ورواج هذا المنتوج ويهدد بانقراض النمط الأصيل ذي القيمة العالية، من حيث الإتقان الفني والعائد التجاري, والمتوارث عبر الزمن والأجيال كأحد أوجه عبقرية الإنسان الموريتاني'
المصدر
يجلس بكار في محله المتواضع في أطراف سوق شعبية وسط العاصمة نواكشوط تسمى 'سوق المعلمين'، ينفخ في كيره، ويهوي بين الفينة والأخرى بمطرقته على سندان من الفولاذ تم تثبيته في الأرض، وحوله تتناثر قطع الحديد والخشب والفحم وأشياء أخرى، من بقايا المواد التي يستخدمها في عمله، يقول بكار إنه تعلم الصنعة وهو صغير على يد والده الذي كان من أمهر صناع القبيلة، وهو اليوم يسعى لتعليمها لابنه الصغير بعد أن فضل أبناؤه الكبار التوجه إلى الدراسة لسلوك طريق غير طريق الآباء والأجداد.
يؤكد أنه يصنع في محله كل الأشياء التقليدية المعروفة، بعضها يبيعه لسكان الأرياف الذين يأتون إلى المدينة لشراء تلك المعدات، والبعض يشتريه سكان المدينة، هذا فضلا عن إقبال السياح على الصناعة التقليدية لاقتنائها.
بكار هو واحد من مئات الصناع التقليديين في موريتانيا الذين ورثوا الصنعة عن آبائهم، ويصرون على الاحتفاظ بها وتطويرها، وينفي أن تكون التكنولوجيا المعاصرة تهدد مصدر رزقه الذي لا يبغي به بدلا، وقد أصبح هو وزملاؤه جزءا من تراث المجتمع الموريتاني الذي تسعى السلطات اليوم لصيانته وترقيته، عبر برامج وتعاونيات متعددة، ويعتمد الصناع التقليديون في صناعاتهم عادة على الخشب والفولاذ والذهب والفضة والنحاس، هذا فضلا عن العاج وجلود الإبل والبقر والماعز، حيث ينتجون منها مقتنيات تتراوح بين المخدات والوسائد والفرش والأساور والخواتم ورواحل الإبل وسروج الخيل والأواني وغيرها.
قصة صناعة الراحلة
كان بكار منهمكا في صناعة راحلة قال إن أحد البدو طلب منه توفيرها له، وكان يتعامل مع قطع الخشب بدقة وإتقان، ويصنع منها صفائح وأشكالا بديعة تتراوح بين المثلث والمعين والمستطيل، وأشكالا هندسية أخرى لم يعرف لها من قبل اسم، ولكل قطعة من تلك الراحلة اسم خاص بها، فبالنسبة لقطعتي الخشب الموجودتين في جانبي الراحلة تسميان 'الصفف'، والواحدة منها 'الصفة'، أما الخشبة الأمامية التي تكون بين رجلي الراكب يمسك بها فوق الجمل، فتسمى 'الكربوص'، وهناك 'اجنايد'، و'الغرظ' وهما عبارة عن حبال وقطع مزركشة وحلق منمقة، يتم بواسطتها تثبيت الراحلة على ظهر الجمل، ومع الراحلة ملحقات خاصة بها، منها 'إلويش'، وهو عبارة عن قطعة كبيرة من جلد الضأن تحتفظ بصوفها، ويتم نقش بعض الرسوم على بطنها وأطرافها، وتوضع فوق الراحلة تكون بمنزلة فراش وثير للراكب، وهناك 'الخزامة'، وهي عبارة عن الحبل الذي يوضع في أنف الجمل ويمسك به الراكب، ويصنع عادة من جلود الماعز، وتكون في وسطه عقد منمقة يتم صبغها باللون الأحمر عادة، وهناك 'اللبدة' وهي عبارة عن كيس من الجلد بداخله قطن أو قماش، يتم وضعه على ظهر الجمل يحول بينه وبين الراحلة، ويعتبر اكتمال شروط الراحلة مع جمل حسن المنظر ممشوق القوام، أفضل تعبير عن كمال الفتوة والرجولة لدى البدو الموريتانيين.
وبعد أن شد بكار قطع الخشب إلى بعضها بإتقان وقوة، تجعلها قادرة على تحمل ما ستواجهه على ظهور الجمال من ركوب وسقوط وغير ذلك، يشرع في تغليفها بواسطة جلد الماعز مستخدما مخرزا طويلا يسمونه 'المخيط'، وأداة أخرى لثقب الجلود تسمى 'لشفة'، وشرائط من الجلد تسمى 'السيور'، واعترف بكار أن هذا العمل يأخذ منه ما بين يومين إلى ثلاثة أيام، ومع ذلك يأخذ مقابله ثمنا يتراوح بين 60 و80 دولارا، وبعد أن ينهي تغليف الراحلة بإتقان، يأتي الدور على زوجته 'خديجة' التي تبدأ في زخرفة 'الراحلة'، بواسطة أنواع مختلفة من الأصباغ تسمى 'الشرك'، تكون عادة من الألوان الصارخة أغلبها ما بين الأحمر القاني والأصفر الفاقع، وبأنامل متقنة تبدع خديجة في زركشة الراحلة وتنميقها، قبل أن ترصع أطرافها بأهداب من الجلد زركشت هي الأخرى ببدائع الرسوم والألوان.
خديجة تقوم كذلك بصناعة المخدات والوسائد من جلود الماعز، ويتم صبغها كذلك بمختلف الألوان، وتخيط في جوانبها أهدابا مزركشة بالألوان الزاهية، وتشتري الأسر الموريتانية هذه الوسائد عادة لتقدم للمرأة عند زواجها قبل أن ترحل إلى بيت أهل زوجها، كما أنها أصبحت جزءا من ديكور البيت لدى بعض الأسر الموريتانية المعاصرة، وتصنع كذلك أنواعا من حلق جمع المفاتيح تسمى 'النسعة'، يتم نسجها من جلود الماعز أو الإبل، كما تقوم بتجليد الكتب وتنميقها، هذا فضلا عن أنها كباقي نساء الصناع التقليديين تخصصت في تزيين العرائس ووضع الحناء لهن، وأصبحت لدى بعض نساء الصناع التقليديين صالونات للحناء والتزيين.
صراع التمثيل
وفي مباني معرض نواكشوط المحلي بحي الميناء تتزاحم عشرات المحلات التي تكتظ بمنتوج الصناعة التقليدية، تنتظر زوارا أغلبهم من السياح الأجانب، ويتطلع أصحاب هذه المحلات إلى أية وسيلة إعلام تقترب منهم، ليبثوا لها الشكوى من ركود بضاعتهم وإعراض السلطات الرسمية عنهم، ويقول سيدي أحمد وهو صانع تقليدي وصاحب متجر في المعرض المحلي، إن الحكومة تعاملت مع فئة قليلة من الصناع التقليديين لا يمثلون أغلبيتهم، وأصبحوا يستحوذون على كل ما يقدم لهم من مساعدة، ويحتكرون صفة تمثيلهم أمام السلطات وفي الخارج، وعندما تكون هناك فرصة للسفر وعرض البضاعة في خارج البلاد بمناسبة أحد المعارض الدولية التي تنظم عبر العالم من حين لآخر، فإن هؤلاء يقومون باختيار أقاربهم والمقربين منهم فيما يتم حرمان آخرين لأن علاقاتهم بهؤلاء غير جيدة، أو لأنهم لا يعرفونهم أصلا.
أما السلطات فتنفي أي علاقة لها بالمشاكل الداخلية لهذه الفئة، وتقول إنها تتعامل معهم عن طريق اتحاديات يتم انتخابها من طرف الصناع التقليديين أنفسهم، وأنها غير معنية بالصراعات الداخلية لهؤلاء، وقد أصدرت الحكومة الموريتانية مؤخرا مدونة قانونية تحمل اسم 'مدونة الصناعة التقليدية' تحدد بوضوح العلاقة بين السلطات وهؤلاء الصناع التقليديين، وتنص هذه المدونة على أن وزير الصناعة التقليدية والسياحة هو المكلف بوضع وتنفيذ سياسة الحكومة في مجال الصناعة التقليدية، وكذلك بالتنظيم والرقابة في هذه المجالات في إطار السياسة المحددة
أما السيدة الغالية صاحبة محل للزينة والحناء، في 'سوق لكبيد' بحي كارفور، فتقول إنها ورثت مهنة تزيين النساء وتصفيف شعرهن وتزينهن بالحناء عن والدتها، وأنها طورت مهارتها حسب الحاجيات المتجددة للنساء اليوم، وقالت إنها تأخذ ما قيمته 70 دولارا مقابل تزيين عروس واحدة، ويتطلب منها ذلك العمل يوما كاملا وساعات طويلة من الليل، مضيفة أن ابنتها الكبرى البالغة من العمر 9 سنوات بدأت تحضر معها إلى المحل لتتعلم وتساعدها في المستقبل.
وفي 'سوق المعلمين' محلات تخصص أصحابها في صياغة الذهب وإعادة صناعته، وأصبحوا من أكبر عناصر هذه الفئة دخلا، حتى أن من بينهم من أصبحوا يسمون بأباطرة الذهب في نواكشوط.
أدوار اجتماعية أخرى
وتقليديا عرف المجتمع الموريتاني للصناع التقليديين أعمالا وأدوارا أخرى تبتعد كل البعد عن حرفهم المعهودة لهم، حيث سخرت هذه الفئة نظرا لوجودها بين الفئات الدنيا في هرم المجتمع، كأداة لتنفيذ مختلف التقاليد الاجتماعية، من قبيل القيام ببعض مراسيم الخطوبة والزواج والطلاق، حيث يتم عادة تكليف إحدى نساء هذه الفئة بنشر خبر الخطوبة، كما تتولى نقل الهدايا التي يقدمها الزوج لأهل عروسه، وحتى في الطلاق تكلف عادة بحمل المال الذي يدفعه الزوج لمطلقته كمتعة بعد فراقهما، ولها نصيب من كل ذلك، ويقول الباحث سيدينا ولد أحمد وهو من المنحدرين من هذه الشريحة، 'إن المجتمع درج على مكافأة هذه الفئة على أعمالهم بصفة مباشرة، مع وجود عطايا تخصهم عوضا عن الأجر غير المباشر، فقد أعطوا نصيبا من الغلات الزراعية في موسم الحصاد، وأعطوا من الذبائح رؤوس الأغنام والبقر، وأجزاء أخرى من الإبل، وكذلك نصيبا من مهور النساء والهدايا التي يتبادلها أهل العروس وأهل العريس'، ويضيف 'ورغم أن هذا يشكل اعترافا من المجتمع بدورهم، فانه مع استمرار انحطاط المستوى الاجتماعي لهم، شكلت هذه العادات مثار سخرية منهم، وتعبيرا عن الدونية وعدم الترفع والسذاجة'.
وحول هذه الفئة نسج المجتمع الموريتاني الكثير من الأساطير الشعبية، أغلبها يكتسي طابع السخرية والتنكيت، وتتندر عليهم الحكايات وتصفهم بالجبن وحب المال والشراهة عند الأكل وغيرها، 'وهو ما ساعد على ترسيخ هذه الرؤية عنهم عبر الأجيال المتتالية حتى أصبح من المسلم به أن هذه الصفات تشكل جزءا من التكوين الشخصي المتوارث لدى أبناء هذه الفئة، وبفعل العامل النفسي وضغوط المجتمع أصبح من البدهي أن يتأثر بعض هؤلاء بهذه الصفات'.
وعهد عن أبناء هذه الفئة حدة الذكاء وسرعة البديهة، إذ عرف من بينهم أشخاص تبحروا في العلم دون أن يتفرغوا له، وحفظوا القرآن وهم منهمكون في أعمالهم اليومية، كما أن المعرض السنوي الذي ينظم في نواكشوط للاختراعات والابتكارات، يحتل العارضون من فئة الصناع التقليديين النصيب الأكبر فيه.
صعوبات جمة
ويواجه الصناع التقليديون في موريتانيا صعوبات جمة، لخصها وزير الصناعة التقليدية والسياحة السابق إسلم ولد عبد القادر في 'رداءة تجهيزات الصناع التقليديين، وصعوبة الحصول على مصادر التمويل، وغياب ميكانيسمات تتعلق بالتسويق، هذا فضلا عن أن النظام التكويني الحالي لا يستجيب بشكل كامل لحاجيات مجمل شعب الصناعة التقليدية، ولهذا يلزم إنشاء هياكل تكوينية جديدة خاصة بالصناع التقليديين'.
أما الرئيس السابق لمشروع صيانة وتثمين التراث الثقافي في موريتانيا هيبتنا ولد سيدي هيبة فيرى أن 'الصناعة التقليدية عنصر أساسي من التراث، ومن الثقافة الموريتانية بشكل عام, وبالتالي فإن بقاءها واستمرارها أمر حيوي وضروري، كما أنها مصدر رزق، ومهنة نبيلة وخلاقة لشريحة كبيرة من المجتمع، ورافد مهم من روافد الاقتصاد الوطني'.
لكن رئيس مشروع صيانة تثمين التراث الثقافي السابق يرى أن الصناع التقليديين يتحملون جزءا من التدهور الذي عرفته الصناعة التقليدية في موريتانيا مؤخرا، وذلك بسبب 'انعدام الجودة والتدني الذي لوحظ منذ بعض الوقت في منتوج الصناعة التقليدية، وهو ما أصبح يشكل عائقا كبيرا أمام ترقية ورواج هذا المنتوج ويهدد بانقراض النمط الأصيل ذي القيمة العالية، من حيث الإتقان الفني والعائد التجاري, والمتوارث عبر الزمن والأجيال كأحد أوجه عبقرية الإنسان الموريتاني'
المصدر
0 التعليقات:
إرسال تعليق