تنتمي لشريحة اجتماعية شكلت ماكنة إنتاج منذ ميلاد الدولة؛ بأناملها وأنامل بنات مجمعها الصناعي؛ تسبك أواني أكل وشرب وأثاث منزلي ومن ذات الأخيلة تصوغ من الجمال زينة.
هي واحدة من نساء الممانعة في زمن التوهان؛ يلقبونها "أمان هله". تناضل في سبيل التراث كما لو أنها صيحة في واد عولمة جارفة.
تبدو تحفة قديمة وهي تسترجع شريط الذاكرة؛ حول تراث شعب بات على شفى اندثار. لا يمكن فهم حسرتها على واقع الصناعة التقليدية بالحوض الشرقي؛ شرقي موريتاني إلا في كنف ثمانينات القرن الماضي؛ حيث كانت الصنعة عنوان مرحلة.
كما لا يمكن فصل هواجس وأفكار تلك السيدة الستينية عن واقع الصنعة اليدوية التي شغلت بالها وشكل توريثها للأجيال تحديا مزمنا؛ تعتقد أنها تخففت من بعضه "للريم".
"الريم" تبادلت معها أطراف الحديث؛ وشاطرتها هموم تجمع نساء الصنعة في مدينة النعمة؛ وقلبت في حضرتها صفحات حملت في طياتها مزيدا من الحيرة والقلق على مستقبل الصناعة اليدوية في الولاية بوصفها تراثا وطنيا مهددا بالانقراض؛ وكانت لنا تأملات في ثنايا اللقاء.
في مرحلة مبكرة من طفولتها أدركت "أمان هله"؛ سر المكانة التي كانت تحتلها أمها وسط نساء الريف؛ حين كن يعولن عليها في إنتاج حاجتهن من آلات زينة وأثاث وأغراض لجنسي الرجال والنساء؛ وحيث كانت الصنعة اليدوية المنتج شبه الوحيد المتداول بالريف.
شعرت "أمان هله"، بسعادة عارمة وهي تحظى بدعم والدتها في سبيل ولوج الصنعة التقليدية؛ فقد أخذت على يدها المبادئ الأساسية للاستصلاح الجلود كمادة أولية وتدرجت في هدوء وأنات نحو تقنيات التصميم وتخيل أشكال محاكاة عدد من مقتنيات الخيمة القديمة في موريتانيا مرورا بهندسة الخط وتداخل الألوان وقوفا على مهارة السبك على طريقة فن الزركشة.
لم تكن "أمان هله"؛ إلا تلك الطفلة الصغيرة التي تلقت تعليمها الأول في أحضان الريف الموريتاني؛ حيث محظرة قرية أنواودار شمالي النعمة؛ بعد أن تسبب موجات الجفاف التي عرفها الشرق الموريتاني في نزوح أسرتها إلى جانب عشرات من الأسر استقرت أخيرا بالمدينة.
الطقوس الاجتماعية المتبعة من قبل أسرة "أمان هله"؛ ساعدتها في النبوغ منذ السن الخامسة؛ وقد نالت تزكية مؤسستها الاجتماعية تقريبا بعد كشفها عن محاولات مبتكرة لتطوير "التاسفره" و"الكشطان" و"أنسع" و"الآغماميل" التي يقتنيها الرجال؛ عوضا عن إضافة مسحة سحرية على الأشكال القديمة لـ "الراحلة" و"لخبط" "والحصائر" و"القلائد" وبعض أصناف حلي الزينة لدى المرأة.
وتصف "أمان هله"؛ مرحلة الريف بالعمل الجماعي الطوعي الذي يعبر عنه محليا ب "أتويزة" حيث تتهافت النساء على إحداهن لإنجاز عمل معين وهكذا بشكل دائري؛ لكن مقتضيات عصرية جديدة حملتها تعقيدات المدينة صاغت شخصية جديدة من شخص السيدة الجديدة؛ التي شعرت بطفرة في الوعي والتفكير حيال خبرتها المكتسبة؛ ككنز مؤجل.
وسريعا تحولت "أمان هلة"؛ "الصانعة المحترفة" إلى قبلة لعدد من المريدين ممن وجدوا في منتجاتها ضالة فنية لا تعدم ذوقا رفيعا وخيالا ليس بحاجة للدعاية؛ فتحولت منتجاتها الصناعية منذ 1991 إلى ماركة تجارية تعرف حركة منتظمة في أسواق نواذيبو ونواكشوط وأزريرات إلى الصحراء الغربية ثم الساقية الحمراء؛ وبأسعار تصفها بالمنافسة.
ويعود جزء من تلك الطفرة التي شهدها المنتج التقليدي على يد "أمان هله"؛ لأحد مشاريع تطوير السجاد الوطني عام 2002؛ حيث استفادت من دعم مادي ولوجستيكي مكنها من ترقية منتجها بالسوق؛ كما سمح لها بتمثيل الولاية في عدة محافل محلية ووطنية كان آخرها معرض القطب الجديد 8 مارس الماضي بسيلبابي؛ جنوب شرقي موريتانيا.
وعدا عن الدخل المادي الذي تصفه "أمان هله"؛ بالمريح نسبيا؛ إلا أنها تبقى حالة إبداعية في سياق بيئة اجتماعية تغزوها الكثير من المعتقدات المكبلة لدور المرأة كما لو أنها جزء من أثاث البيت.
"أمان هله"؛ تعتقد أنها صاحبة رسالة لذا فهي شغوفة بالتبليغ على طريقة توارث الأجيال؛ وتبدو مسكونة بهم شريحة بحالها؛ حين تناضل في سياق دائرتها الاجتماعية بهدف توريث هذا الفن؛ الذي يبقى بمثابة هوية أجيال تبدو مقاطعة له، وتنظر إليه بمزيد من الازدراء.
ورغم اختصاص قطاع السياحة في موريتانيا بالرقي بهذا المنتج؛ الذي يعاني نزيف خبرات سببه هجرة سدنة القطاع ثمانينات القرن الماضي؛ إلى جانب آثار العولمة وغز الآلة؛ إلا أنه بقي بعيدا عن سياسات القطاع المختص؛ تقول "أمان هله".
وفيما كانت تقاسمنا جرعة هموما تثقل كاهلها بعد مخاض تجربة إبداع مرهقة؛ أرادت أخيرا ترجمة مطلب وحيد لا يأخذ شكل الدعم التقليدي؛ بقدر ما يكون وسيلة حضارية لصيانة موروث تجاوز مراحل قرع أجراس الخطر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق