من بين الأشياء القليلة التي تدعوا للفرح في موريتانيا هو ذالك
الوعي المتزايد لكثير من الفئات الاجتماعية التي صنفها المجتمع على الهامش ـ
دون خوض في ذالك الهامش مركزه وهامشه ـ بهويتها من تكون وماذا تريد.
الظاهرة الاولى كانت قبل سنتين عند ظهور "الانعتاقية" وأيقونتها بيرام ولد
الداه ولد اعبيدي ممثلة لشريحة العبيد والعبيد السابقين.
الظاهرة الثانية هي حركة "لا تلمس جنسيتي" ممثلة لفئة الزنزج
الموريتانيين الذين استشعروا التهديد من الأحصاء الجديد الذي لم يبدا
التحسيس بأهميته ووطنيته الا بعد ان سالت الدماء وزهقت الارواح من طرف
واحد.
الظاهرة الثالثة لم تتجسد بعد كحراك مجتمعي أو فئوي كما سيفضل البعض ان
يسميه بل هي حركة في طور التبلور او ربما يجب ان تكون التالية كي يكتمل عقد
النضال السلمي لكافة الفئات المسحوقة اجتماعيا للحصول على مكانها اللائق
بين مكونات المجتمع الموريتاني الا وهي فئة "الصناع التقليديين" او
"لمعلمين". . البداية في كل نضال كما يعرف الجميع هي الوعي ضديا كان او
تصالحيا ـ مع ان الهدف النهائي من الوعي الضدي هو التصالح بعد رفع الغبن او
هكذا يتصور لي عدا ذالك يسمى انتقاما والانتقام فعل نفسي قصير المدى يضمر
مفعوله ويختفي ساعة تحققه.
ما اوده هنا هو لفت الانتباه الى كيفية تبلور هذا الوعي الذي شاهدت
بداياته من خلال مجموعة افتراضية على شبكات التواصل الاجتماعي، ينشط فيها
شباب من هذه الفئة وينقلون عبرها كلاما كنت اسمعه لاول مرة. اعتقد ان السبب
في تأخر ظهور حراك اجتماعي لفئة لمعلمين يوازي الحراك المجتمعي الاخر
متشعب منه ماهو ذاتي ومنه ماهو موضوعي. اعتقد ان السبب الاول فيما اعتقد
انه مشكلة "لمعلمين" هو ازمة الهوية التي تعانيها هذه الشريحة. فغير
الطرفاء من شريحة "لمعلمين" نادرا ما يعرفون انفسهم على انهم "امعلمين".
فكثير منهم يعرفون انفسهم على انهم من القبيلة الفلانية دون تفصيل الا في
حالة الحاح السائل بسوء نية او بدونها. والسبب في هذا هو كون "لمعلمين" فئة
منبوذة اجتماعيا نسج الخيال الشعبي ـ الذي صنعته ثقافة البيظان ـ حولها
أساطير وقصصا مازالت موضعا للتداول والتدوير بصغات و اشكال تختلف اختلاف
البيئات الحضرية او المدنية التي يعيشون فيها. لم اطلع بعد على حصر ممنهج
لهذه الاساطير والاكاذيب التي نسجت تاريخيا ضد "لمعلمين" ولكن النشأة في
هكذا مجتمع كفيلة باشباعك منها رغم انفك.
فمثلا يضرب المثل في "لمعلم" التي هي كلمة مدح عند كثير من الثقافات
المغاربية والمشرقية ـ يضرب فيه المثل في ثقافة البيظان بالكذب "اكذب من
امعلم" والنهم "اهرد من امعلم" والجبن "اخوال لمعلمين" والتسرع "احيا روح
من امعلم" ويضرب المثل في سذاجة لمعلم لانه "يرقع كدحان الناس قبل كدحانه"
ويضرب المثل في عدم الفعالية ب "موس لمعلمه" ذو الجنب الواحد وتستمر هذه
الشيطنة لتمتد لغذاء "لمعلم" الذي تخبرنا اساطير الاولين والحاضرين ان له
جزء خاص من الشاة ـ الراس ـ تماما كما للعبيد جزئهم الذي يليق باسنانهم
القوية ومبالعهم الواسعة (السلاليخ)، وتواصل جوقة الشيطنة لتقول لنا ايضا
ان "لمعلم" هابز للنار والادهى من ذالك والامر انه لا خير فيه ولو كان
عالما اي لو كان بصيريا، عدودا، او ددوا؟ يا للسخرية!
طبعا ان المسار المؤسس لهذه الترهات والمنسوجات الشيطانية يحتاج لتحليل
انثروبولوجي تضيق الاسطر عن الخوض فيه للتجاوز الى ما هو اهم من ذالك الترف
الا وهو الطريقة التي تمكن ضحايا هذا الخيال الضحل من التعامل معه وتجاوزه
وهو ما يحققه بعضهم بالظرافة وتبني هذه الترهات بل واحيانا الاستفادة
منها.
اعتقد ان الخطوة الاولى لتكسير هذه الخرافات المؤسسة لاحتقار فئة كريمة
وذكية خدمت هذا المجتمع المسكين تاريخيا ومازالت هي احتوائها وتفريغها من
مضمونها القدحي الشيطاني. يكون ذالك بتفكيك هذه الاساطير من خلال الدراسة
والتمحيص والنقاش في المنابر المتاحة وهي قليلة ونخبوية حتى الان ولكن
سيكون ذلك مفيدا جدا في مراحل قادمة تشهد انفتاحا اكبر لوسائل الاتصال
الجماهيري.
اما الخطوة الثانية بعد التفكيك فهي اعادة البناء والمعنيون بذلك هم
ضحايا هذه البنى الثقافية القذرة التي ما زالت مترسخة في اذهان الكثيرين
ومصدرا لتندرهم ونكاتهم. على شريحة "لمعلمين" بشبابها وابنائها الواعين
وغيرهم من القوى التقدمية في البلد المستعدة لبناء مجتمع موريتاني جديد على
عقد اجتماعي جديد لا غبن فيه ولا هوامش... عليهم العمل على اعادة بناء
شخصية "لمعلم" من جديد... عليهم اعادة بناء "امعلم" جديد يفخر بذاته وبامه
وجده وما يقدمان للمجتمع من خدمات جليلة رغم النكران واللؤم التاريخي الذي
تواجه به عطاءاتهم. ..على "لمعلم" الجديد ان يقدم نفسه بكل فخر واعتزاز
كسليل لــ"أعل حداد" و"الصوينع" و "اطراح" وضع في القائمة من شئت. ..على
"لمعلم " الجديد ان ينظر بكل فخر في اعين اقرانه وزملائه في الفصل ليقول
لهم؛ نعم انا "امعلم" امي صانعة الجمال والكمال الذين تتدثر به في
المنزل..، في المكتب،.. وفي البادية وابي هو صانع "الرحل" و"التاديت"
والسكين والطبل والمدفع... واذا تندر عليك وسأل عن عشائك او عن غدائك فقل
له انه السبب في ذكائك وذكاء اسلافك من بني عبقر.
ان ادراك الذات واعطائها حقها سيكون خطوتك الاولى في كسب احترام حتى من
لا يريد احترامك...من اشهر القصائد المحكية للشاعر الفلسطيني الراحل "محمود
درويش" هي قصيدة يخاطب فيها جنديا اسرائيليا يهينه ويحتقر وجوده بجملته
المشهورة التي أمر فيها الجندي الاسرائيلي: "سجل أنا عربي"...بامكان كل
"امعلم" واعي بهويته ..، واثق من نفسه وفخور بما قدم اجداده لهذه الارض ومن
عليها ان يخاطب الجميع من جديد ويقول ...سجل انا امعلم ويقلب الصفحة...
الحاج ولد ابراهيم
/باحث علوم اتصال واعلام/جامعة المولى اسماعيل. مكناس.المغرب/
Ramalla7@maktoob.com
0 التعليقات:
إرسال تعليق