الخميس، 23 يناير 2014

فئة لِمْعَــلْمِينْ وتجليات الظلم والتمييز

في الآونة الأخيرة انبرى الكثير من المشككين في نوايا حراك لمعلمين ومآربهم من وراء هذا الانتفاض في وجه الظلم، حيث ذهب بعضهم إلى اتهامه بالعمالة، وطرح آخرون الكثير من الأسئلة حول دوافع الحراك في دولة تسودها العدالة - حسب ما يرون – نافين وجود أي ظلم أو حيف وقع على شريحة لمعلمين!

وسعيا للإجابة على هذه التساؤلات - دون الرد على أسطوانة العمالة - سنسلط الضوء على جوانب الظلم الاجتماعي الذي حاقَ بفئة لمعلمين في العقود الماضية، والذي انسحب على التعاطي معهم في الجانب السياسيّ، وعرف تأثيره غمطاً لذكر دورهم التاريخيّ، وظهرت تجلياته في الجانب الاقتصاديّ، وبرز تأثيره جلياً في حقبة السماوات المفتوحة في الظهور الإعلامي.

الظلم الاجتماعي:

مبدأُ معاناة فئة لمعلمين هي مع الظلم الذي طالهم من طرف المجتمع، والذي جعل منهم أناسا دونيين في نظر الآخرين، فصار التعاطي معهم نمطيا على أساس هذه النظرة؛ هذا الظلم الذي حِيكَ لشرعنته الكثير من الإفك والبهتان تشويهاً للسمعة، وقتلاً للمعنويات، ونفياً للأهلية، وتدنيساً للكرامة البشرية! فلقد نحتت مقولات على أنها أحاديث شريفة كالمقولة الأثيرة عند الناس، والتي يستخدمها طلبة المحظرة لقتل معنويات زملائهم من أبناء الفئة حيث يقولون بأنه "لا خير في الحداد ولو كان عالما"، وسجعت أنظام ركيكة لا أخلاقية على غرار الأنظام الفقهية يراد من خلالها التأكيد على دونيتهم وكأنها شرع من عند الله، كهذين البيتين الركيكين السيئين:

شهادة القين ترد سرمدا ... والمصلي خلفه يعيد أبدا
لأنه مشتهر بالكذب ... وأصله يهودي في النسب

والتي رد عليها الشاعر صلاح الدين ولد الخو أصغر شباب لمعلمين في الآونة الأخيرة ببيتين أحسن سبكا، مفحمة لأمثال هؤلاء المفترين:

قولكَ في الصانع ليسَ مُسندا ... ولـــم تقــــــلْهُ فـــيه إلا حســـــــــدا
وإن أردت وصفـــــه بالكــــــــــــذب ... لقتلهِ في مهـــــدهِ أنتَ غَــبِي

وبهذا منعت إمامتهم، وردت شهادتهم، وزوّرت أنسابهم، ونفيت الأهلية عنهم، ولا أدل على ذلك من الفتوى التي أطلقها العلامة سيدأعمر والتي وردت في كتاب حياة موريتانيا للمؤرخ ولد حامدٌ في الصفحة 104-105 حيث يقول سيدأعمر : "من المعلوم أنهم لا يرجعون إلى أب واحد وإنما جمعتهم الحرفة فمنهم من هو شريف الأصل ومنهم من هو عربي محض والظاهر من حال أكثرهم أنه من السودان وفيهم أئمة وأفاضل وعوامهم كسائر العوام، بل هم خير من كثير، فمن نسبهم إلى الرق أو الشؤم، أو أبطل شهادة من ظهرت عدالته منهم أو منع إمامته ضل وكذب وقال ما لا علم له به، ولشيخنا جد الوالد كلام في بعض كتبه استدل به بعض الجهّال لهذا السؤال ولا حجّة له فيه".

هذه الفتوى التي تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه عُمل إبّان الحقب الماضية على التدليس، وتلبيسِ الحق بالباطل، وكتمان ما أنزل الله من البيّنات، فصارت هذه الأكاذيب جزءا من معتقد الناس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واسْتمرأَ المدلّسون الأمر ومضوا في افترائهم على التاريخ حيث اختلقوا قصصا من مخيالهم المريض تُرجع أنساب الشريحة إلى من أقدم – والعياذ بالله – على كسر رباعيته صلى الله عليه وسلم – والذي مات ولم يخلّف بسبب دعوته صلى الله عليه وسلم عليه! - يريدون بذلك إلحاق أكبر ضرر نفسي بهذه الفئة حتى لا تنافس في مضامير الحياة وخصوصا منها ريادَةُ تحصيل العلوم والمعارف، ليُلحق بهم بذلك أكبر ضرر نفسي يمكن تخيّله، ويتم التنفير منهم وعزلهم اجتماعيا، حيث صاروا فئة اجتماعية قائمة لا تجمعها قبيلة ولا منطقة ولا أصل، وظلت هذه الأساطير تورّث للأجيال باستمرار حتى قيام الدولة التي عملت بدورها على تكريس النظرة الجمعية ضد الفئة.

الغبنُ السياسي:

لم يكن القائمون على تسيير أمور الدولة سوى أفراد من المجتمع حملوا معهم فكره وجاهليته، فكرسوا التمييز والإقصاء في تسييرهم لشؤون الناس، وظلوا أوفياء لسياسة الإمارة التي تكرّس الغبن ضد الفئات المستضعفة، وكانت الفئة الأكثر تضررا من ذلك فئة لمعلمين، فمنذ نشأة الدولة إلى اليوم لم تولِهم أهمية كما باقي الشرائح الأخرى بالرغم من أنه مشهود لأطرهم بالتميز في شتى المجالات، فحرمتهم من حقهم في توزيع الحقائب الوزارية التي تنتهج فيها سياسة المحاصصة على الفئات والقبائل والجهات، ولم يكن لمناضليها السياسيين سوى المراتب المتدنّية في هيئاتها تكريسا لنفوذ السلطات التقليدية، ولم تشركهم في توزيع المنح والفرص الاستثمارية، وانتهجت الأحزاب السياسية هي الأخرى ذاتَ السياسية وكانت وفيةً للتقسيم الطبقي في توزيع الأدوار السياسية وفي الترشيحات الانتخابية.

التغييبُ التاريخي:

دور الفئة التاريخي هو الآخر ليس أحسن حالا من سابقيه، حيث تم تغييب دورهم من طرف كتَبَةِ التاريخ؛ ذلك الدور المحوري الذي لعبوه ما قبل نشأة الدولة وإبّان تأسيسها وطوال مراحل نموّها، من توفير أدوات العيش ووسائل الترحال وصناعة آلات الدفاع، وتطوير الأسلحة المستوردة والصناعة على غرارها، فلم يذكروه إلا لِماماً وأولوا الأهمية للجانب الحرفي على حساب ذكر الأعلام والرموز والمقاومين، وإن ذكروا فلا يصل ذلك للترجمة الوافية لهم كبقية أعلام البلد.


سياسة التفقير:

في الجانب الاقتصادي كانت السياسة هيَ هي من طرف الدولة في تعاطيها مع منتجي حاجيات الأمس وموفري الاكتفاء الذاتي ما قبل إنشاء الموانئ العملاقة، حيث تنكّرت الدولة لجميل الأمس، بل بالغت في إهمالهم وتركهم لثنائية الفقر والقهر، فلم توفر لهم ظروفا ملائمة لمزاولة أعمالهم الحرفية، ولم تستجلب لهم مصانع لتطوير منتوجاتهم، ولم تمدهم بالمواد الأولية، ولم تمنحهم قروضا بنكية ميسرة، ولم تعمل على خفض أسعار الذهب لأسواقهم، ولم تراعِ لهم الأحقية في إدارة أنفسهم بأنفسهم، بل عملت على تكريس التبعيّة فأعطت حق إدارة شؤونهم لغيرهم! أكثر من ذلك؛ منحت الامتيازات لمساسرة يعملون على كسب إنجازاتهم والمتاجرة بجهودهم بدلا عنهم، ومنح تآشر للتمثيل في المعارض الدولية باسهم، وظلوا بهذا يرفلون في قيود الفقر، ويعانون من نِير التمييز.

التمييز في زمن الإعلام:

لم يقتصر الأمر على هذه الجوانب المذكورة فحسب، بل انسحب على تعاطي الإعلام الرسمي مع كوادرهم في شتى المجالات، في زمن السماوات المفتوحة، فلم يعرف أعلام هذه الفئة من علماء ودعاة وفقهاء ومثقفين وأكاديميين طريقهم إلى الظهور للإفتاء الديني، والتنظير المعرفي، والإثراء الثقافي، ومناقشة القضايا المطروحة، في وفاء من القيّمين على الإعلام لما يعرف من عدم استفتاء أعلام الفئة، وعدم الأخذ بآرائهم، واستمرت سياسة التغييب الإعلامي حتى مع ظهور القنوات الجديدة الحرة حيث لم يعرف بعد لهم ظهورا خصوصا فيما يتعلق بالدعوة والتوجيه والتنوير، ودعك من مناقشة القضايا المطروحة، اللهم إلا في حالات استثنائية حدثت مؤخرا ما زالت خجولة.

تلك هي تجليات الظلم والتمييز الذي عانته وتعانيه شريحة لمعلمين، وهو ما يُحتّم على الدولة العمل على معالجة هذه الأمراض الاجتماعية التي تفتك بالمجتمعات، تماما كما تعمل على الوقاية من الأمراض الفتاكة.
يجب على الدولة تجنيد منابر المساجد، وتوظيف دروس شيوخ المحاظر، واستخدام استيديوهات البرامج التلفزيونية والإذاعية، لتغيير الصورة النمطية عنهم في المخيال الجمْعي، بتفنيد تلك الأساطير، وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي نتجت عنها. ثم عليها تغيير سياساتها تُجاه نُخب الفئة من علماء وفقهاء ومثقفين وأكاديميين، وإنزالهم منزلتهم اللائقة للمشاركة في خدمة البلد في شتى المجالات كبقية نخب فئات الوطن، وعليها كذلك العمل على كتابة التاريخ واستخدام أقلام مؤرخين منصفين يتمتعون بحظ من الحياد كبير، ثم التحسين من المستوى الاقتصادي للحرفيين من أبناء الفئة وإنشاء أسواق خاصة بهم ومعارض عصرية لمنتجاتهم، وكذا استيراد آلات لصناعاتهم.

بهذا تستطيع الدولة معالجة قضية لمعلمين، وبهذا فقط يتم رد الاعتبار للقوم الذين عانوا جراء هذا الظلم والتمييز والإقصاء ردحاً من الزمن، لم يمنعهم من أن يظلوا أوفياء متمسّكين بدينهم القويم، مستمسكين بوطنيتهم الفذة رغم الجراح.
المصدر

0 التعليقات:

إرسال تعليق