الثلاثاء، 22 أبريل 2014

المواطنة هى الحل

سيد أحمد ولد محمد،
مدون و عضو جمعية
 موريتانيون متحدون من أجل العدالة و المساواة
إن أكبر مشكلة عانت منها موريتانيا هي انشغال نخبها ومفكريها بمشاكل العالم و إعطاءها أولوية على مشاكلنا الداخلية. التى كان ممكننا استقراءها من خلال التركيبة الإجتماعية و الوضعية الإقتصادية للبلاد أنذاك. فكم دموع ذرفت و كم من مداد سكب و كم من قوافي نظمت من أجل تخليد مواقف دولية، عربية كانت أو إفريقية. لقد تغنى الموريتانيون فى فلسطين و نعوا درياسين و بكوا جمال عبد الناصر و غاندى و تشاي جيفارى و توجعوا لحال نلسن ما ندلا و حديثا أبنوه. طبعا لست ضد أن يتقاسم الموريتانيون أوجاع أمتيهم العربية و الإفريقية و لا أن ينخرطوا فى ما بات يعرف بالعولمة حتى قبل بدايتها الحقيقية، ما أنا ضده هو أن نعطى أولية لمشاكل الغير و ننسى أن نأسس لمقومات بلدنا الذى يتميز بتركيبة إجتماعية تخفى الكثير من بذور الانشقاق و الفتن التى كان يجب وأدها قبل أن تنغرس جذورها فى هذه الأرض الطيبة.
إن أكبر إنجاز كان يمكن القيام به فى زمن دولة الإستقلال هو تعريف المواطنة وتعزيزها لخلق وطن موريتاني يكون فيه الفرد شخصية اعتبارية لها حقوق و عليها واجبات وفقا للنظريات الدستورية و السياسية المعاصرة. فكما هو معروف، المجتمع الموريتاني يتميز بوجود مجموعتين طاغيتين، المجموعة الحسانية بكل مكوناتها و المجموعة الإفريقية بطوائفها الثلاثة. و تتلاقى هاتان المجموعتان فى تبنى التركيبة التراتبية المغلقة، القائمة على دور الفرد فى المجتمع، كنظام اجتماعي، مما يتنافى مع قيم المواطنة وقيم الديمقراطية التى تضمن للفرد الوصول لأعلى السلم، إما بقدراته الذاتية أو عن طريق الانتخاب، بدل الحظوة الموروثة أو الدونية الأزلية.
إن تقاعس الدولة أنذاك عن لعب دورها فى ترسيخ المواطنة، أدى الى ترسيخ الحمية القبلية حتى أصبحت القبائل كيانات موازية للدولة فى نواح عديدة.

أما فى عهد موريتانيا الجديدة (2008-2014)، فقد انشغل القائمون على السلطة تحت إكراهات التنمية و احتراما لتعهداتهم، انشغلوا فى عملية البناء و الإعمار فى مجالات شتى كما وفرت السلطات فسحة من حرية التعبير مكنت من سماع أصوات المهمشين. و فى مجال مكافحة الرق و آثاره، فقد اتبعت السلطات القائمة نهج أسلافها فى تقديم الحلول الدستورية بالإضافة لمحاربة الآثار و الرواسب المتعلقة بالعبودية. إن نهج مكافحة الآثار و الرواسب مرحب به طبعا لكنه لن يكون كافيا دون اللجوء لمحاربة الأبعاد النفسية و الفلسفية المؤثرة على الانتماء للمجتمع، حسب المنهج التحليلي السليم، المبنى على أحدث المقاربات، مما يتطلب جرأة فى القرار و صرامة فى التنفيذ، عودنا عليها القائمون على الشأن العام فى الوقت الحالي. و يبقى التذكير واجبا بأن الاستثمار فى تنمية بلد يغيب فيه مفهوم المواطنة حتى لدى بعض النخب، يشبه الى حد كبير بناء قصور من رمال على شاطئ بحر هائج.

إن المقدمة أعلاه تقودني لطرح سؤال جوهري عن ماهية المواطنة و عن الأسباب التى أوصلتنا لحالة الشرخ فى وحدتنا الوطنية. لقد اعتمدت فى مقاربتي هذه على عدة بحوث و تقارير تعتبر مرجعا فى هذا المجال، لمناقشة عناوين ثلاث، هى:
• المواطنة
• أسباب الصراع
• الحلول

أولاً: المواطنة
يحتل مفهوم المواطنة موقعاً مركزياً في الفكر القانوني والدستوري المعاصر إذ إن الفكر السياسي الحديث يعتمد في البناء القانوني للوطن على هذا المفهوم ويحدد له جملة من الإجراءات والاعتبارات. لذلك فإننا نعتقد أن تطوير واقعنا السياسي والقانوني اليوم، مرهون إلى حد بعيد على قدرتنا على المستويين النظري والعملي لبلورة هذا المفهوم كحقوق وواجبات في الفضاء الاجتماعي والوطني.
إنه من نافلة القول فى هذا الإطار: إن الوطن الموريتاني لا يمكن أن يتعافى من أزماته الإجتماعية و تنافر أطيافه إلا بإعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة و تجسيده فى كل السياسات و الممارسات و العمل على خلق فضاء وطني جديد طابعه الأساسي هو المواطنة بصرف النظر عن جميع المنابت الأخرى، جهوية كانت أو عرقية أو فئوية. إذ أن التنوع الموريتاني لا يمكن أن يتعاش بإيجابية و استمرارية فى ظل الوطن الواحد، إلا بمواطنة حقيقية، تسمح لكل بممارسة حقه و تلزمه واجبه دون مواربة. فالمواطنة بكل ما تحتضن من متطلبات وآليات هي حجر الأساس في مشروع البناء الوطني الجديد.
أن الكثير من الأزمات والتوترات فى بلادنا، هي المحصلة النهائية لتغييب مفهوم المواطنة والإعلاء من شأن عناوين خاصة على حساب الإطار الوطني العام. إن النهج الذي غيّب أو ألغى المواطنة لصالح القبيلة أو الجهة أو حتى الانتماء السياسى، هو -عبره وعبر متوالياته وتأثيراته- الذي فاقم التوترات وزاد من الاحتقان الإجتماعي وأفضى إلى خلق كيانات اجتماعية معزولة عن بعضها البعض، لا يجمعها إلا الاسم والعنوان العام.
ثانيا: أسباب الصراع
إن الصراع داخل المجموعات فى الوطن الموريتاني، خصوصا الحسانية منها، أصبح باديا للعيان أكثر من أي وقت مضى حتى و لو حاول البعض تجاهله أو ربطه بأسباب خارج السياق. فبعد ظهور حراك لحراطين فى بداية الثمانينات من القرن الماضى و الذي كانت جريمة العبودية هى المحرك الظاهري له، ظهرت حركة إيرا و التى ترجع هى أسباب حراكها لنفس الظاهرة المشينة. إن ظهور هاتين الحركتين رغم تباين نهجيهما و خطابهما كان بداية التصدع فى جسم المجتمع الحساني الموريتاني.
عند ظهور حركة الحر لجأت الدولة للحل الأمني الذي يعتبر أسهل الحلول، فسجنت المناضلين و بعدها أفرجت عنهم و عادت لتجرب الحل القانوني و حرمت العبودية. و هنا نلاحظ أن الحل القانوني لم يكن كافيا لأن القضية تتعلق بغياب المواطنة، و التى تحتل مركزا أساسيا فى الفكر الدستوري و القانوني الموريتاني الذي يكرس مبدأ المساواة فى أكثر من فقرة ولم يشرع أبدا العبودية. إذن كان التشخيص خاطئا و العلاج بطبيعة الحال خاطئ بالتبعية. إن الدليل على ما قلته هو ظهور حركة إيرا بنهجها الذي أثار لغطا شديدا حول العبودية و كذلك ظهور حراك لمعلمين أيضا. إن ظهور هاتين الحركتين يبهرن على أن تهلهل النسيج الموريتاني لا تعود جذوره لأسباب قانونية أو دستورية، إذ منذ بداية حركة الحر توالت القوانين المحرمة تارة و المجرمة تارة أخرى للرق و لم يتغير الكثير، بل أصبح الأمر أكثر تعقيدا بعد ظهور حراك لمعلمين، فهل نخلق لهم قانونا يجرم ما يعانون منه؟
إن الفهم الصحيح لما يعانيه المجتمع الحساني الموريتاني يتطلب الغوص فى بعض المفاهيم المرتبطة بتعريف المواطنة، كالانتماء مثلا. فالمجتمع الموريتاني التقليدي ينتمي أفراده الى القبيلة، بغض النظر عن ترتيبهم الإجتماعي و بعد ظهور الدولة فقدت القبائل جزءا من بريقها و لم تعد توفر أسباب الانتماء إلا للقليل من أفرادها، أي شيوخ القبائل و أبنائهم لذلك توجه العامة (أسفل السلم الإجتماعي) إليها )الدولة (باحثين فى حضنها عن دفئ يعوضهم عن حنان القبيلة لكن بدى أن ذلك الحضن لا يتسع للجميع و من هنا بدأ ما يعرف بضعف الانتماء للمجتمع.
الانتماء مفهوم نفسي، اجتماعي، فلسفي و هو نتاج العملية الجدلية التبادلية بين الفرد والمجتمع أو الجماعة التي يفضلها المنتمي. جماعة الانتماء، هى التي يتوحد معها الفرد ويستخدمها معياراً لتقدير ذاته، ومصدراً لتقويم أهدافه الشخصية، هذه الجماعة فى حالتنا يمثلها الشعب الموريتاني.
يتأثر الانتماء للجماعة بالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة، ولذلك فإن أنماط السلوك التي يصعب تفسيرها أو تبريرها أحياناً ما تكون نتيجة لفشل الفرد في الشعور بالانتماء وإحساسه بالعزلة عن الجماعة أو لرفض الجماعة له بسبب الاحتقار أو التهميش أو المساس بحقوقه الأساسية. إذا فكل إنكار للمجتمع على الفرد إشباع حاجاته المتعلقة بمجتمعه، فإنه ا)لفرد( قد يتخذ موقفاً سلبياً إن لم يكن أحياناً عدائياً للمجتمع ،إذ قد يلجأ إلى مصادر بديلة ، يوجه إليها اهتمامه وانتماءه ، وقد تكون مصادر غير مرغوب فيها أحياناً ، ولها عواقبها السيئة على كل من الفرد والمجتمع .
إن مثل هذه الأمور تجلت بوضوح فى مجتمعنا خلال السنوات الأخيرة، فمن الدعوة للانفصال الى المطالبة بهوية خاصة الى غير ذلك من أحداث خطيرة.
ثالثا: الحلول
إن الخطوة الأولى في مشروع الحل والإصلاح هي تأسيس العلاقة بين مكونات المجتمع والدولة على أسس وطنية تتجاوز كل الأطر والعناوين الضيقة. بحيث يكون الجامع العام لكل المكونات والتعبيرات والأطياف هو المواطنة. التي لا تعني فقط جملة الحقوق والمكاسب الوطنية المتوخاة، وإنما تعني أيضاً جملة الواجبات والمسؤوليات العامة الملقاة على عاتق كل مواطن.
وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن تكون رابطة المواطنة رابطة قسرية ـ قهرية، وإنما هي رابطة طوعية ـ اختيارية قائمة على الاختيار الحر والتعايش السلمي بين جميع المكونات والتعبيرات. وتأخذ هذه الرابطة فعاليتها وقدسيتها من طبيعة العقد الوطني والمضامين السياسية والثقافية التي يتضمنها ويحتضنها.
فإطار المواطنة في المنظور الحضاري، يقوم على مفهوم الجماعات الحرة والمتوافقة والمتعايشة بالتراضي والوئام والشراكة. والتجارب السياسية في العديد من الدول، أثبتت أن دحر الخصوصيات الذاتية أو الجماعات الفرعية لصالح الإطار العام، لا يفضي إلى وحدة ومواطنة سليمة، بل تدفع محاولات الإقصاء والدحر إلى تشبث كل جماعة بذاتها وخصوصياتها وتنعزل نفسياً وشعورياً وثقافياً عن الجماعات الأخرى.
لذلك فإننا نعتقد أن خلق مفهوم المواطنة الجامع والحاضن لكل الجماعات والتعبيرات، لا يتأتى بإفناء الخصوصيات الثقافية أو إقصائها وتهميشها، وإنما عبر توفير النظام القانوني والمناخ الاجتماعي ـ الثقافي الذي يسمح لكل التعبيرات والحقائق الثقافية بالمشاركة في إثراء الوطن والمواطنة. وهذا لا يعني التشريع للفوضى أو الميوعة تجاه الجوامع المشتركة.
وإنما يعني وبعمق أن الالتزام بالجوامع والمشتركات الوطنية ومقتضياتها، لا يتأتى إلا بالحرية والعدالة ومتوالياتها التي تنعكس في السياق الوطني ومستوى التزام الجميع بالوحدة والاندماج الوطني.
إن تحقيق هذه الالتزامات فى بلدنا لن يتأتى دون مراجعة شاملة لمناهج التعليم المتبع عندنا و سواء فى ذلك الديني منه أو المدني. (......). أما فيما يخص التعليم العام، فإنه يحتاج مراجعة شاملة للمناهج المتعلقة بالوحدة الوطنية كمواد التاريخ التى يجب أن تعاد صيغتها لتظهر حياة الشعب الموريتاني و جذوره و انتماء كل أطيافه لهذه الأرض بغض النظر عن أصولهم. كما يجب إعادة الاعتبار لدور مختلف فئات الشعب فى الحياة العامة و تثمينه و ذلك للتخلص من النظرة الدونية.
أما فيما يخص المواطنة، فيجب تشجيع كل ما من شأنه تعزيزها كالحد من نفوذ القبيلة و اعتبار معايير الكفاءة و الريادة أساسا للولوج للوظائف العامة. كما يجب السير قدما فى نهج الدمقراطية المبنية على الانتخاب الحر على أساس الكفاءة و النزاهة مما يعلب دورا إيجابيا فى تعزيز القدرات الشخصية للأفراد فى إطار مجتمعي تنافسي.
إن التوصيات السابقة، إن هي طبقت، ستكون كفيلة بخلق أجيال من الموريتانين المؤمنين بثقافة المواطنة الفخورين باختلافاتهم و المستعدين استعداد المقتنع بالحياة فى ظل دولة قوية و موحدة.
Sidmd2002@yahoo.fr

0 التعليقات:

إرسال تعليق